تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وصف الله سبحانه رسوله الكريم بأعلى الأوصاف، وأكمل الصفات، وذكر ذلك في القرآن، فقال: {
وإنك لعلى خلق عظيم } (القلم:4) وكفى بشهادة القرآن شهادة .
وكان خلق التواضع من الأخلاق التي اتصف
بها صلى الله عليه وسلم، فكان خافض الجناح للكبير والصغير، والقريب
والبعيد، والأهل والأصحاب، والرجل والمرأة، والصبي والصغير، والعبد
والجارية، والمسلم وغير المسلم، فالكل في نظره سواء، لا فضل لأحد على آخر
إلا بالعمل الصالح .
وأبلغ ما تتجلى صور تواضعه صلى الله عليه
وسلم عند حديثه عن تحديد رسالته وتعيين غايته في هذه الحياة؛ فرسالته ليست
رسالة دنيوية، تطلب ملكًا، أو تبتغي حُكمًا، أو تلهث وراء منصب، بل رسالة
نبوية أخروية، منطلقها الأول والأخير رضا الله سبحانه، وغايتها إبلاغ
الناس رسالة الإسلام. فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير القول: (
إنما أنا عبد الله ورسوله )،
فهو قبل كل شيء وبعد كل شيء عبد لله، مقر له بهذه العبودية، خاضع له في كل
ما يأمر به وينهى عنه؛ ثم هو بعد ذلك رسول الله إلى الناس أجمعين .
ولأجل هذا المعنى، كان صلى الله عليه وسلم
ينهى أصحابه عن مدحه ورفعه إلى مكانة غير المكانة التي وضعه الله فيها؛
وعندما سمع بعض أصحابه يناديه قائلاً: يا محمد ! يا سيدنا ! وابن سيدنا !
وخيرنا ! وابن خيرنا ! نهاه عن هذا القول، وعلمه ماذا يقول، وقال: (
أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ) رواه
أحمد و
النسائي .
والذي يوضح هذا الجانب من تواضعه، ما أخبر به صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها، بقوله: (
يا عائشة ! لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني مَلَك، فقال: إن ربك يقرأ
عليك السلام، ويقول لك: إن شئت نبيًا عبدًا، وإن شئت نبيًا ملكًا، قال:
فنظرت إلى جبريل، قال: فأشار إلي، أن ضع نفسك، قال: فقلت: نبيًا عبدًا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئًا، يقول:
آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد ) رواه
الطبراني وغيره.
فهو صلى الله عليه وسلم لم يرض لنفسه أن يتصف بغير الوصف الذي وصفه الله
به، وهو وصف العبودية، وأنه رسول مبلغ عن الله، وليس له غاية غير ذلك مما
يتطلع إليه الناس، ويتسابقون إليه .
وكما وضَّح صلى الله عليه وسلم غايته في
هذه الحياة ورسالته، فهو أيضًا قد وضح مكانته بين الأنبياء ومنزلته بين
الرسل، فكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل من أحد أن يفضله
على أحد من الأنبياء، مع أن القران قد أثبت التفضيل بين الأنبياء والرسل
في قوله تعالى: {
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } (البقرة:253) وما ذلك إلا لتواضعه صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت أن رجلاً من المسلمين ورجلاً من
اليهود سب كل واحد منهما الآخر، فقال المسلم لليهودي: والذي اصطفى محمدًا
على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم
يده عند ذلك وضرب اليهودي على وجهه، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فأخبره بما حدث، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم، فسأله عن
ذلك، فأخبره بالذي جرى، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من صحابته ألا
يفضلوه على أحد من الأنبياء، وأخبرهم عن منـزلة موسى عليه السلام، وأنه
يوم القيامة يكون مع النبي ومن أول الذين تنشق عنهم الأرض يوم القيامة.
والحديث في الصحيحين .
وفي الجانب المقابل، يظهر تواضعه صلى الله
عليه وسلم في علاقاته الأسرية مع أهله، وكذلك في علاقاته الاجتماعية مع
الناس من حوله؛ أما عن تواضعه مع أسرته، فخير من يحدثنا عن هذا الجانب أم
المؤمنين
عائشة رضي الله عنها، تقول وقد
سألها سائل: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت: ( يكون
في خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة ) وفي رواية عند
الترمذي قالت: ( كان بشرًا من البشر، ينظف ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه ). فهو
صلى الله عليه وسلم يقوم بتنظيف حاجاته بنفسه، ويشارك أهله في أعمال بيته،
ويجلب حاجاته من السوق بنفسه مع أنه صلى الله عليه وسلم خير الخلق أجمعين
.
وأما تواضعه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
ومن حوله، فحدث عنه ولا حرج. ويكفي أن تعلم في هذا المقام أنه صلى الله
عليه وسلم كان يركب الحمار، وهي وسيلة نقل عادية في ذلك الزمان، ليس هذا
فحسب، بل كان يحمل خلفه على دابته، من كان لا يملك وسيلة نقل تنقله .
ومن مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه
لم يكن يرضى من أحد أن يقوم له تعظيمًا لشخصه، بل كان ينهى أصحابه عن فعل
ذلك؛ حتى إن الصحابة رضوان الله عنهم، مع شدة حبهم له، لم يكونوا يقومون
له إذا رأوه قادمًا، وما ذلك إلا لعلمهم أنه كان يكره ذلك .
ولم يكن تواضعه عليه الصلاة والسلام صفة
له مع صحابته فحسب، بل كان ذلك خُلُقًا أصيلاً، تجلى مع الناس جميعًا.
يبين هذا أنه لما جاءه
عدي بن حاتم يريد معرفة حقيقة دعوته، دعاه صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها، فجعل الوسادة بينه وبين
عدي ، وجلس على الأرض. قال
عدي : فعرفت أنه ليس بملك .
وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه
كان يجلس مع أصحابه كواحد منهم، ولم يكن يجلس مجلسًا يميزه عمن حوله، حتى
إن الغريب الذي لا يعرفه، إذا دخل مجلسًا هو فيه، لم يستطع أن يفرق بينه
وبين أصحابه، فكان يسأل: أيكم محمد ؟ .
ويدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه
لم يكن يرد أي هدية تقدم إليه، مهما قلَّ شأنها، ومهما كانت قيمتها، ولم
يكن يتكبر على أي طعام يدعى إليه مهما كان بسيطًا، بل يقبل هذا وذاك بكل
تواضع، ورحابة صدر، وطلاقة وجه .
ومن أبرز مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم
ما نجده في تعامله مع الضعاف من الناس وأصحاب الحاجات؛ كالنساء، والصبيان.
فلم يكن يرى عيبًا في نفسه أن يمشي مع العبد، والأرملة، والمسكين، يواسيهم
ويساعدهم في قضاء حوائجهم. بل فوق هذا، كان عليه الصلاة والسلام إذا مر
على الصبيان والصغار سلم عليهم، وداعبهم بكلمة طيبة، أو لاطفهم بلمسة
حانية .
ومن صور تواضعه في علاقاته الاجتماعية،
أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا سار مع جماعة من أصحابه، سار خلفهم، حتى
لا يتأخر عنه أحد، ولكي يكون الجميع تحت نظره ورعايته، فيحمل الضعيف على
دابته، ويساعد صاحب الحاجة في قضاء حاجته .
تلك صور من تواضعه عليه الصلاة والسلام،
وأين هي مما يصوره به اليوم أعداؤه، والمبغضون لهديه، والحاقدون على
شريعته؛ ثم أين نحن المسلمين من التخلق بخلق التواضع، الذي جسده نبينا صلى
الله عليه وسلم في حياته خير تجسيد، وقام به خير قيام ؟!