الشيخ /رفاعي سرور
في الحديث " الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ إِلَّا أَنْ يُغَمَّ عَلَيْكُمْ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ " .
والحديث يشير بوضوح إلى أن إجماع الأمة وتقديرها في تحديد بداية الشهر هو الذي يكون به الأمر عند الله إذا مَنع الغمامُ الرؤيا «فإن غمّ عليكم فاقدروا له» فيكون رمضان عند الله بحساب الأمة وتقديرها وشهادتها.
ويدعم هذا المعنى ما جاء في سنن البيهقي: «فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تُضَحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر»
والمعنى أن فعل الأمة هو الذي يعطي الصفة الشرعية للزمن الذي يكون فيه الفعل.
فيوم الفطر عند الله هو اليوم الذي يفطر فيه المسلمون، ويوم الأضحى عند الله هو اليوم الذي يضحي فيه المسلمون.. تمامًا كما كانت بداية رمضان هي اليوم الذي أجمع عليه المسلمون.
وبذلك تترسخ قيمة الأمة في شرع الله وفاعليتها في قدره.
ويزيد الأمر بيانا قول رسول الله «أنتم شهداء الله في الأرض»
في الحديث عن أنس _رضي الله عنه_ " مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ "
ولاحظ أنّ الرسول لم يقل: «صدقتم» إذْ كلمة صدقتم تفيد أن مصير الجنازتين كان محددًا عند الله ، وبالتالي يكون المعنى أن شهادة المسلمين وافقت ما كان عند الله، وإنما قال «وجبت» وكأنّ مصير الجنازتين عند الله تحدد بشهادة المسلمين. وحتى تعلم قيمة الأمة في شرع الله وفاعليتها في قدره.تدبر الآثار المترتبة على دخول شهر رمضان، الذي يتحدد بدايته بشهادة الأمة.
_ سيتحدد تبعا لتلك الشهادة... توقيت ليلة القدر... توقيت نزول الملائكة والروح فيها بإذن ربهم.
وحيث سيكون فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار وسلسلة الشياطين كما قال رسول الله : «إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» .
وكلها أقدار جامعة لآثار عظيمة ناشئة عن شهادة الأمة.
وفتح أبواب السماء يعني كما في راوية أخري أبواب الجنة وجاءت بلفظ أبواب السماء هنا. لإثبات أنّ الجنة في السماء، وليس هذا الفتح عملا رمزيا ولكنه عمل له آثاره الكونية المحسوسة.
قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين
قال الزين بن المنير: ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره.
وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرا فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟
فالجواب: أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس؛ فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية, وقال غيره: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له: قد كُفَّت الشياطين عنك؛ فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية.
وسواء كان المعني علي الحقيقة أو المجاز فالثابت هو الأثر الكوني المحسوس لهذا الخبر النبوي
((إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ))
ولكي نفهم هذا الأثر في رمضان نعرج على أثر الجنة والنار في غير رمضان:
من ناحية الجنة يثبت الأثر من قول رسول الله النيل والفرات من أنهار الجنة
قَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ أَصْل النِّيل وَالْفُرَات مِنْ الْجَنَّة، وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْل سِدْرَة الْمُنْتَهَى، ثُمَّ يَسِيرَانِ حَيْثُ شَاءَ اللَّه، ثُمَّ يَنْزِلَانِ إِلَى الْأَرْض، ثُمَّ يَسِيرَانِ فِيهَا ثُمَّ يَخْرُجَانِ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعهُ الْعَقْل، وَقَدْ شَهِدَ بِهِ. قَالَ: وَقِيلَ: وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ الْأَنْهَار أَنَّهَا مِنْ الْجَنَّة تَشْبِيهًا لَهَا بِأَنْهَارِ الْجَنَّة لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّة الْعُذُوبَة وَالْحُسْن وَالْبَرَكَة، وَالْأَوَّل أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَم.
ومن ناحية النار يثبت الأثر من قول رسول الله : " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ "
وذكر: أن النار اشتكت إلى ربها، فأذن لها في كل عام بنفسين: نفسٌ في الشتاء ونفسٌ في الصيف»
ومن ذلك أيضا الارتباط بين النار والشمس على المستوى اليومي وهو قول رسول الله من حديث أبي هريرة:«... والصلاة متقبلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح، فإذا كانت على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإنها الساعة التي تسجر فيها جهنم، ويغم فيها زواياها حتى تزيغ، فإذا زاغت فالصلاة محضورة متقبلة حتى تصلي العصر، ثم دع الصلاة حتى تغرب الشمس»
غير أنّ هذه الآثار الناشئة عن فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار تكتمل تماما في ليلة القدر ومن هنا جمع رسول الله بين هذه الآثار وتلك الليلة فقال " أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ "
ومن هنا كانت العلامات الواردة لليلة القدر مرتبطة بتلك الآثار
فبالنسبة للجنة يأتي وصفها في تفسير قوله تعالى: {إنّ لك ألا تجوع فيها} أي في الجنة {ولا تعرى} {وأنك لا تظمأ فيها} أي لا تعطش، والظمأ العطش {ولا تضحى} أي تبرز للشمس فتجد حرَّها؛ إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.(القرطبي)
قال أبو العالية: نهار الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر.
وهو نفسه وصف ليلة القدر كما قال رسول الله : «إنّ أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة سجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها حتى تصبح.
وهذا الوصف هو وصف مناخ الجنة،
ويضاف إلى ذلك أن تكون الملائكة مع المؤمنين في ليلة القدر مثل الملائكة مع المؤمنين في الجنة في الجنة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) (الرعد:23)
كذلك يكون سلام الملائكة علي المؤمنين ليلة القدر كما جاء في تفسير قوله تعالي
تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلَّموا عليه.عن الشعبي في قوله تعالى: { مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } قال: تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد، حتى يطلع الفجر.
وأنّ علامة مصافحته عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين
ومن هنا كان قول البقاعي في فضائل ليلة القدر (ولما ذكر سبحانه هذه الفضائل، كانت النتيجة أنها متصفة بالسلامة التامة كاتصاف الجنة _التي هي سببها_ بها، فكان ذلك أدل على عظمتها.
أما من حيث إغلاق أبواب النار فقد تبين _آنفًا_ أثر النار علي الشمس فيكون أول صفات ليلة القدر هو منع هذا الأثر عن الشمس كما قال رسول الله :"وأنّ أمارتها أنّ الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر".
وقال رسول الله : «ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء».
فلا يكون للشمس شعاع حيث لا يكون لجهنم أثر عليها، ليصبح رمضان وليلة القدر زمنًا من الجنة وتصبح شهادة الأمة إيذانًا بهذا الزمن.