بسم الله الرحمن الرحيم
ليس مطلوبًا أن يصبح المسلمون كلهم علماء؛ بل كل إنسان يخدم الإسلام بما هيئ له
نرى كثيرًا من الدعاة يدعو لحشد الأمة في طريق طلب العلم الشرعي بشتى مجالاته، على اختلاف أفهامهم وقدراتهم، فهل من نصيحة تسدونها للمربين في هذا الصدد؟!
يقول فضيلة الشيخ أبو عاصم هشام عقدة حفظه الله: نعم نسدي إليهم نصيحة أن يتفقهوا في سنة الله تبارك وتعالى وأن الله جل وعلا يسَّر كلَّ إنسان لشيء، وكلُّ إنسان ميسر لما خلق له، والله تبارك وتعالى خلق أناسًا ميولهم إلى العلوم الشرعية، وعندهم إدراك صحيح وحسن فهم، وسرعة حفظ وقوة ذاكرة، وصبر وجلد على العلم والقراءة والفقه، وخلق أناسًا ميلهم إلى الفروسية، وخلق أناسًا ميلهم إلى الزهد وإلى التعبد ونحو هذا، وخلق أناسًا يميلون إلى بعض الصناعات وبعض الحرف.
وهذا الكلام ذكره ابن القيم في كتابه «تحفة المودود في أحكام المولود»؛ بل وفيه أنه مما ينبغي أن يعتمد في تربية الصبي حاله وما هو مهيأ له، وذكر أنه إذا رآه صحيحَ الإدراك حَسَنَ الفهم يعلم أنه هُيِّئَ للعلم فيمَكِّنه منه ومن أسبابه، وإذا رآه محبًا للفروسية وللعب وللرمي فليمَكِّنه منها، وكل ذلك بعد أن يعلم ما يلزمه من أمور دينه([1])، فهذا هو القيد، فإن هناك حدًّا أدنى من أمور الدين يلزم أن يفهمه الناس، ويفهم أيضًا الصراع بين الحق والباطل الذي يدور على الأرض منذ أن توعَّد الشيطان آدم عليه السلام أن يغويه وذريته في حرب إلى يوم القيامة.
وبعد ذلك كل إنسان يخدم الإسلام بما هُيِّئَ له، فلا يمكن أن يكون الناس كلهم علماء، فلقد كان هناك فقهاء الصحابة، وكان هناك من الأعراب من يبول على عقبيه، فكان هناك تفاوت حتى في عهدهم فوجد منهم من عرف بالعلم مثل: معاذ بن جبل، وعبدالله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ووجد منهم من يميل للفروسية والقتال: كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ووجد من غلب عليه العبادة والزهد: كأبي الدرداء وأبي ذر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينصح أبا ذر بألا يتأمَّر على اثنين وألا يتولى مال يتيم؛ لأنه يراه ضعيفًا في هذا الجانب(2).
وقال ابن حزم في مداواة النفوس: «من مال بطبعه إلى علم ما ولو كان أدنى من غيره, فلا يشغلها بسواه, فيكون كغارس النارجيل(3) في الأندلس, وكغارس الزيتون في الهند، وكل ذلك لا ينجب»(4).
وهكذا يجب أن تكون نظرة العالم أو الشيخ أو الداعية، فليس الأشخاص كلهم نسخة واحدة؛ بل خلقهم الله بميول متفاوتة حتى تتحقق المصلحة، وإلا لما عمرت الأرض، ولما صار للمسلمين دولة، ولا صار لهم قوة، إذا كانوا كلهم قرَّاء أو فقهاء، ولم يكن منهم أصحاب تخصصات أخرى لا يقوم للمسلمين قائمة إلا بها، بل لابد من إتقان التخصصات فذلك من مقومات النصر.
فإذن يوجه كل إنسان بعد أن يتعلم القدر اللازم من دينه إلى ما يناسبه وما يتضح أن الله هيأه له.
--------------------------------------------------------------------------------
( [1]) ينظر: «تحفة المودود بأحكام المولود» لابن القيم (ص 243، 244) مكتبة دار البيان ـ دمشق، ط1، 1391هـ ـ 1971م، تحقيق عبد القادر الأرناءوط.
( [2]) وذلك فيما رواه مسلم (ح1825) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ».
( [3]) في المصباح المنير للفيومي: النارَجيل هو الجوز الهندي.
( [4]) انظر: كتاب الأخلاق والسير أو رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل لابن حزم (ص 89) تحقيق إيفا رياض ـ دار ابن حزم ـ بيروت ـ الطبعة الأولى.